الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحاضرات ***
حدثني بعض الفقراء عن شيخ له من أهل العصر المتصدر لصحبة المريدين أنه بينما هو جالس في محله جاء فقير غريب، وأظنه قال: من "ناحية" السوس الأقصى، فلما قرب منه تكلم لبعض من كان حاضرًا بلسانه البربري فقال له: قل لذلك "الرجل يعني" الشيخ المذكور: أما بقيت في الدنيا مصابيح يقتبس الضوء منها؟ فبلغ الرجل لذلك الشيخ فقال الشيخ: قل له: قد بقيت، ولكن من جاء يقتبس أتى بفتيلة مبلولة، فقال الفقير: قل له: ما معنى بللها؟ فقال الشيخ: قل له: لا أقل من أن يطلب أو يترجى الولاية، فقال: فوضع الفقير يده على جبهته ساعة ثم انصرف من هنالك، فلما رأيت الفقير الذي حدثني تبجح بهذا الكلام الصادر من شيخه وجعله من التنبيهات المهمة للسالك، وكنت جاريته كلامًا في استحلاء الطاعة فقال: إن تلك الحلاوة علة، وعلمت أنه أيضًا قد بنى على ذلك وأنهم سمعوا نحو قول الواسطي رحمه الله: "استحلاء الطاعات سموم قاتلة" فأردت أن أنبّه على غلط يخشى في هذا الأمر، فأقول وبالله التوفيق: إن كلًا من الكلام الواقع للواسطي والواقع من هذا الشيخ صحيح في نفسه، وهو تحقيق في بابه، وعند أربابه، أما إلقاؤه لعوام المتوجهين فغلط في التربية، إما جهلًا وقصورًا، وإما تمويهًا وتظاهرًا بالنهايات، أما حديث الولاية فمن وجهين: *** الأول أن التدريج معتبر عند الناس، وهو حكمة الله تعالى البالغة الجارية في الناميات الحسيات والمعنويات، ثم ارتكاب أخف الضررين مطلوب شرعًا، فلو رأينا مثلًا كافرًا مضرًا بالمسلمين وتعذر قطع ضرره بالسيف فإنا إذا أمكننا أن نستنزله عن الضرر بسبب "من" موعظة أو مال أو حظ ما فعلنا ذلك، ورأيناه إذا نزل عن ذلك أفضل من غيره، وإلى هذا الفضل إشارة حديث: «أسْلَمْتَ عَلى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ» ولو أمكن أن نستدرجه إلى الإسلام ولو بحظ من دفع مال أو إظهار حفاوة مثلًا لفعلنا ذلك، وهو التأليف الذي جاءت به الشريعة، ورأيناه إذا أسلم ولو مع شوب الحظ أفضل ممن بقي على الكفر المحض ولا نلزمه في هذه الحالة الإخلاص وحقائق الإيمان لأنا نرجو أن سيعاشر المؤمنين ويعاين محاسن الإسلام فلا يزال يتمكن ويصفو، وهكذا وقع لكثير ممن أسلم أوّلًا رغبة في المعاش واستحلاء للغنائم، أو هربًا من الجلاء والسيف. ثم إن المسلم إذا كان مسرفًا على نفسه وأمكننا أن نستجرّه إلى ترك المعاصي والتنزه عن الفسق فعلى هذا النمط ولو تاب إلى الله تعالى وأقلع عن الشهوات الدنيوية طلبًا لما أعد الله تعالى في الدار الآخرة من النعيم الذي لا يوازيه نعيم الدنيا ولا يدانيه، وكان لا يجد من نفسه في الحال نزوعًا عن اللذائذ العاجلة إلاّ بما يمنيها به من اللذائذ التي هي أشرف وأنفس فإنا نساعده على هذه العزمة ولا نذمه بأنه انتقل من حظ إلى حظ، ولا نطالبه بارتفاع الهمة "إلى الحضرة" والتخلي عن الدارين، فإن هذا لم يكن بعد من أهل هذا الشأن، وأن النفس لَجوج مصرّة على حظوظها الحسية، وإنما تنزل عنها بالطمع فيما هو من جنسها وأشرف منها إلاّ من خصه الله تعالى. وقد قال صاحب "القواعد": "ما جبلت عليه النفوس فلا يصح انتفاؤه عنها، بل ضعفه وقوته فيها، وتحويله عن مقصد لغيره، كالطمع لتعلق القلب بما عند الله تعالى توكلًا عليه ورجاء فيه والحرص على الدار الآخرة بدلًا من الدنيا..." إلى آخر كلامه فلو ألزمنا هذا عزل النفس عن الحظوظ وتجريد القلب للحقيقة أوشك تحيص نفسه حيصة وهي لم تزل قوية، فيعود من حيث جاء، ولعلك تفهم بهذا سر امتلاء كتاب الله تعالى بذكر الجنة وما فيها من الحور والقصور والغلمان والأنهار، فإن الدعاء بمثل هذا هو مشرب النفس، وهو حال عامة الخلق، والله تعالى أعلم بمصالح عباده. ثم إذا ترفع المزيد عن هذه الحالة واشرأبَّ إلى ما وصل إليه العارفون، وانتهض لسلوك هذا المسلك والاشتغال بعمله من العزلة والصمت والجوع والسهر فلو توسمنا فيه التشوف إلى حصول الوصول، أو الولاية، أو المعرفة، أو الفتح، أو القرب، أو نحو ذلك فلا ينبغي أيضًا أن نعالجه بالتحقيق ونطالبه بالعبودية والفناء عن الأغيار من أول وهلة، بل نرخي له العنان حتى يتمكن في الرياضة وتنقاد نفسه ويقشعر جلده وقلبه لذكر الله، فعند ذلك تسهُلُ إشالته مع السابقة والتوفيق إما على لسان شيخ ناصح أو أخ صالح أو بعض من ينصره الله به كما وقع للشيخ أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال: كنت أنا وصاحب لي في مغارة نتعبد ونقول: غدًا يفتح علينا، وهكذا وطال علينا الأمر، فبينما نحن كذلك يومًا دخل علينا رجل من باب المغارة فسلم ورددنا عليه ثم قلنا له: من أنت؟ فقال: عبد الملك، فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له: كيف أنت؟ قال كالمنكر علينا: كيف أنت؟ كيف أنت؟ كيف حال من يقول: غدًا يفتح علي فلا فتح ولا فلاح، ولا دين ولا دنيا، يا نفس لم لا تعبدين الله مخلصة له الدين، قال الشيخ: فعلمنا من أين أتينا ورجعنا على أنفسنا باللوم، وقلت: يا نفس، أي شيء أنت حتى تطلبي ما تطلبين أو كلامًا هذا معناه، فقال فجاء الله تعالى بالفتح أو موهبة من الله تعالى بلا واسطة سبب، وما ذلك على الله بعزيز. وبالجملة فدواعي النفس صعبة الانفصال عن الإنسان، ومع ذلك فهي معينة في بابها «إنَّ اللهَ يؤيِّدُ هَذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ»، ومتى وافق الحق الهوى فزبد وعسل.
ثم "إن" التجرد العام، والصفاء التام، عزيز الوجود، ومن ثم قال الشيخ أبو العباس بن العريف رحمه الله: علق العباد بالأعمال، والمريدون بالأحوال، والعارفون بالهمم، فالأعمال للجزاء، والأحوال للكرامات، والهمم للوصول، والكل عمى وتلبيس، إلى أن قال: وإنما يبدو الحق عند اضمحلال الرسم، وما سوى الله حجاب عنه، فهذا مقام التحقيق، ولكن لمن أهل له وبلغه، وليس للمرء أن يلزم به المريد بأول قدم، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن لم يحصل له لم يحصل له فليس من أهل الطريق، "كلا" لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. والرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وما على العبد إلاّ تعاطي الأسباب، وعلى الله فتح الباب، وهو موهبة وخصوصية من الحق لا تنال بمقياس، فمن أراد الله تعالى توصيله طوى عنه مسائف نفسه، ومحا عنه وهمه، فإذا هو عند ربه ومن أراد أن يمادَّه في ميدان أوهامه بقي فيها بقاء بني إسرائيل في التيه. أما ترى إلى قول الشيخ عبد السلام بن مشيش في برد الرضا والتسليم: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى: فنقول: نعم، ثم لو جرد عن تلك الحلاوة لأوشك أن يشتغل بذلك التجريد عن الله تعالى ما دام يلاحظه، فإن كل ما سوى الله حجاب عنه، ثم هكذا في التجريد عن التجرد والفناء عن الفناء إلى ما لا يتناهى حتى يقطع الله تعالى ذلك بموهبته لمن اختصه من عباده. وأما الوجه الثاني فإن هذا الكلام يوهم قلوب عوام المريدين أن الولاية لا تطلب رأسًا، وأن المريد متى طلب من الله تعالى أن يرزقه الولاية أو الفتح أو المعرفة أو القرب أو الوصول أو نحوها، أو تشوف إلى شيء من ذلك فهو معلول السلوك، أو هالك مقطوع، وهذا غلط وجهل، كيف والعبد مأذون له أبدًا أن يسأل مولاه ويطلبه في حوائجه من أدناها كشراك النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر إلى أعلاها كرضاه، فإذا طلب من مولاه أن يرزقه ما رزق أولياءه في الدنيا والآخرة فأي حَرَج عليه في ذلك إذا وقف على حدود الأدب؟ وإنما حذر الناس من العلل والصوارف، وذلك أن يكون الباعث له على الانتهاض إلى السلوك والاشتغال بالعبادة إنما هو حصول الولاية مثلًا، فإنه حينئذ يفوته الاخلاص في عبادته فيفسد أمره، ويكون ما يرجو من الولاية مثلًا شاغلًا لفكره وسره عن الله تعالى. فأما من عرف الحق وأن العبد يعمل تعبدًا والمولي يعطي تفضلًا لا غير وانتهض على ذلك الوجه يعبد الله تعالى امتثالًا لأمره، وأداء لحق ربوبيته على باب مولاه وسيده ورجاء للنيل من مائدته الموضوعة للخيار فلا بأس عليه، ولا مذمة تلحقه، ولا علة تدخل عليه ما دام على هذه الحال.
نعم الناس في أمر الطلب والدعاء لا في هذه ولا في غيرها صنفان: "صنف" يسلم ولا يطلب، "وصنف يطلب" وذلك "بسبب" اختلاف المشارب وتباين الشهادات، فمن أشهده الله تعالى كونه عبدًا مملوكًا مكفولًا بعين مولاه وفي حياطته لم يبق له دعاء ولا طلب، بل التوكل والتسليم وانتظار القسمة السابقة، وله في هذا مشارب، فقد يلاحظ حياطة المولى وكفالته فيستغني، وقد يلاحظ انبرام القسمة وأن الدعاء لا يزيد فيها ولا ينقص فيمسك، وقد يلاحظ علم الله تعالى وقدرته وجوده فيستحيي، إذ لا ينبه إلاّ غافل، ولا يستنهض إلاّ عاجز ولا يستعطف إلاّ بخيل، إلى غير هذا من الواردات، وقد يلاحظ إساءته وتقصيره في الخدمة فيستحيي أن يطلب، ومن أشهده الله تعالى "كونه" عبدًا فقيرًا محتاجًا إلى سيده لا يستغني عنه لحظة، وقد أذن له في رفع حوائجه إليه فليس إلاّ الدعاء والطلب، وله في ذلك أيضًا مشارب، فتارة يسترسل مع وصفه من الافتقار واللجأ إلى مولاه، وتارة يرى تعاطي ذلك وإظهاره هو اللائق بالعبودية، وتارة يلاحظ امتثال أمر الله تعالى حيث طلب من عباده أن يدعوه، وذلك كله من غير التفات إلى حاجة تقضى ولا ثمرة غير ما حصل له من التعبد والمناجاة والتذلل بين يدي الملك الجليل، وناهيك بذلك ثمرة "مع" ما يرجى أن يستتبعه ذلك من رضوان الله تعالى، وهو نهاية السول وغاية المأمول، وهذا كله لمعرفته بأن القسمة قد سبقت لا تزداد ولا تنقص، ومحال أن يكون الدعاء اللاحق، سببًا للعطاء السابق، فلم يبق إلاّ أن الدعاء عبادة وتأدب مع الرب تعالى، والرب يفعل ما يشاء "ويحكم ما يريد"، وقد يلاحظ أن من جملة ما يقضى ترتب بروز العطاء على الدعاء، وأن الاشتغال بالدعاء سبب كسائر الأسباب فينتهض لإقامة الحكمة في تعاطي الأسباب وامتثال أمر الله تعالى في ذلك إذا أقيم "فيه" وهذا الوجه هو الذي يظهر من أحوال من يتحرى أوقات الاستجابة وأسبابها من الصالحين، والأوجه كلها حسنة لا يخرج المتلبّس بشيء منها عن الخصوصية، نسأل الله تعالى أن يمنحنا حسن الأدب بمنه. ثم الداعي أيضًا له حالتان، لأنه إما أن يشهد حال نفسه من الإساءة والتقصير والخساسة الذاتية والذلة والمهانة فلا يدعو إلاّ بما يناسب ذلك من العفو والمغفرة والنجاة من النار والإقالة واللطف ونحو ذلك، وفي هذه الحالة قال القائل: تجرأت البارحة فسألت الجنة، وقال الآخر: سبحان الله متى خرجنا من النار حتى نطلب الجنة، وإما أن يشهد وصف ربه من الكرم والجود والفضل، أو يشهد أنه عبد للمالك العظيم، ويلاحظ نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سَألْتُمْ اللهَ فَاسْتَعْظِمُوا المَسْألَةَ، فَإنَّ اللهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْء» فيدعو بما يناسب ذلك من الجنة والدرجة العلية، والرضوان والمعرفة، والمحبة والقرب والولاية، ونحو ذلك، ولا شك أن الحلة الأولى هي أنسبُ بالعبد في هذه الدار وأسلم له، ولكنه بيد الله تعالى يتصرف ويتلون بحسب سابق المشيئة. وأما الحلاوة فمن جهة ما ذكرنا من التدريج، فإنا نود أن لو وجد المسرف حلاوة للطاعة وتبعها حتى يترك فسقه ويتمرن على العبادة، فعسى أن ينقله الله إلى حالة أخرى أرفع، وقد تكلمنا فيما لسنا من أهله وتعدينا طورنا، فنستغفر الله تعالى. لله الأمر من قبل ومن بعد.
اعلم أن الله جل أسمه بلطيف حكمته وبديع صنعته خلق العقل وجعل غذاءه العلوم والمعارف، ويسر له الاستعداد من الموجودات قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} وقال تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم} فما من شيء يبرز في الوجود من السماء والأرض وما بينهما إلاّ ويمكن أن يكون للعقل فيه غذاء بحصول علم أو علوم، ويختلف ذلك باختلاف العقول فطنة وجمودًا أولًا، وباختلاف مواهب الله تعالى وفتوحه ثانيًا، ويجري ذلك في الجواهر والأعراض وما لها من الكميات والكيفيات والهيئات، فمن رزقه الله تعالى فطنة استفاد من الأمور ما يستغربه أهل الجمود.
ومن هذا ما وقع للحكماء في البرهان وفي الفلسفة وفي الهندسة وفي أنواع الصنائع والحرف وأصناف الحيل وضروب الغرائب في الأفعال والأقوال، ومن رزقه الله تعالى فهمًا من لدنه ونورًا كان أقوى وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلاّ استفاد من طيرانه، أو يصر باب إلاّ استفاد من صريره، أو يتكلم متكلم إلاّ استفاد من كلامه، ما لم يرده المتكلم ولم يخطر له ببال، وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين رضي الله عنهم. لله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد قال أبو نواس في ممدوحه: تغطيت عن دهري بظل جناحه *** فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام عني ما درت *** وأين مكاني ما عرفن مكاني فكان هذا مشربًا عندهم في حق أهل كهف الإيواء من الأصفياء الأخفياء رضي الله عنهم، وهو واضح. وقال أيضًا في الخمريات: إذا العشرون من شعبان ولّت *** فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار *** فقد ضاق الزمان على الصغار فصار عندهم موعظة في الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، ولا سيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل. وقال أيضًا: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *** وداوني بالتي كانت هي الداء فصارت مشربًا للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم. وفي مناقب الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، أنه في مسيره إلى المشرق، وكان في محفّته، فكان فتيان ذات يوم يمشيان تحته في ظلها ثم جعلا يتحدثان، فقال أحدهما "للآخر": يا فلان مالي أرى فلانًا يسيء إليك وأنت تتحمل منه؟ فقال له: والله ما كان ذلك مني إلاّ لأنه من بلدي فكنت كما قال القائل: رأى المجنون في البيداء كلبًا *** فجلله من الإحسان ذيلا فلاموه على ما كان منه *** وقالوا: لِمْ أنلت الكلب نيلا فقال: دعوا الملام فإن عيني *** رأته مرة في حي ليلى فسمعه الشيخ فتواجد وجعل يقول: فقال: دعوا الملام..... البيت. ويكرره ثم خلع غفارته ورمى بها إلى الفتى المنشد فقال له: أنت أولى بها يا بني. وفي "لطائف المنن": أنشد إنسان بحضرة الشيخ مكين الدين الأسمر -رضي الله عنه- قول القائل: لو كان لي بالراح يسعدني *** لما انتظرت لشرب الراح إفطارا الراح شيء شريف أنت شاربه *** فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا فأنكر بعض الحاضرين على المنشد وقال له: لا يجوز إنشاد مثل هذا الشعر فقال الشيخ للمنشد: أنشد فإن هذا -"يعني" المنكر- رجل محجوب. وفي أبيات عبد الصمد بن المعَذَّل المشهورة حيث يقول: يا بديع الدل والغنج *** لك سلطان على المهج إن بيتًا أنت ساكنه *** غير محتاج إلى السرج وجهك المأمول حجتنا *** يوم يأتي الناس بالحجج مشرب عظيم لهم أيضًا. وقد سمع صوفي هذا البيت من جارية فتواجد وصاح ولم يزل كذلك حتى مات. "ومن أجلِّ ما يذكر في هذا الباب وأعذبه ما ذكره الشطيبي في "أذكاره" قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الصفة رضي الله عنهم ومعه ابن عباس فوجدهم يناشدون الشعر فيما بينهم، فلما رأوه أمسكوا إجلالًا له صلى الله عليه وسلم، فلما استقر جالسًا قال صلى الله عليه وسلم: هل فيكم من ينشدنا شيئًا من الشعر؟ قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليك، ثم أنشأ بعضهم: في كل صبح وكل إشراق *** تبكي جفوني بدمع مشتاق قد لسعت حية الهوى كبدي *** فلا طبيب لها ولا راق إلاّ الحبيب الذي شغفت به *** فعنده رؤيتي ودرياقي فتواجد صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداؤه عن جسده فأعطاه أهل الصفة وكانوا أربعين رجلًا فقطعه عليهم أربعين قطعة صلى الله عليه وسلم". وهذا النوع لا يحصى، وفيه يطيب لهم السماع، ويقع الوجد عند الاستماع، وإنما أردت أن ننبه فيه حيث انجذب الحديث إليه على معنى إيقاظًا وإمتاعًا. فاعلم أن فهم المعنى عند سماع لفظ القائل يكون على وجهتين: أحدهما أن يكون لدلالة اللفظ المسموع عليه في الخارج إما حقيقة وإما مجازًا، إما لغة وإما عرفًا.
ثانيهما أن يكون كذلك في وهم السامع ولا حاصل له في الخارج، فتحصل الفائدة بحسب ما طرق وهمه. أما الوجه الثاني وهو بحسب الخارج في حكم السماع من غير اللفظ كصرير الباب وصوت الطائر، مثاله ما ذكر التاج ابن عطاء الله أن ثلاثة نفر سمعوا "صائحًا" يقول: "يا سعتر بري" فسبق إلى فهم واحد منهم أن الصائح يقول "اسْعَ تر بِرّي" "وفهم الآخر أنه يقول: "السّاعَةَ تَرّى بِرّي" وفهم الآخر أنه يقول: "يا سَعَة بِرّي"، وكان سماع الثلاثة جميعًا من الحق تعالى إلاّ أن كل واحد منهم فهم على حسب حاله. أما الأول فكان سالكًا مبتدئًا، فورد عليه الأمر بالسعي والجد مع ما يفيد تنشيطه من الترجية برؤية البر بكسر الباء، وهو الإحسان والتفضل من الله تعالى. وأما الثاني فكان سالكًا تطاول به السير، فورد عليه التنفيس والتبشير برؤية البر الساعة. وأما الثالث فكان واصلًا "قد" شاهد الفضل فورد عليه الخطاب على وفق شهوده بأن بر الله تعالى ما أوسعه! فهذه فهوم اختلفت وفصلت من إلقاء الله تعالى عليها ما فهمت بسبب مجرد مناسبة ما في اللفظ المسموع وأن لم يكن طبقًا لها لا إفراد ولا تركيبًا ولا حقيقة ولا مجازًا، فإن القائل إنما أراد السعتر المعروف البري بفتح الباء، أي غير البستاني، فسبحان اللطيف الخبير. وأما الوجه الأول فهو الكثير المشهور، وذلك أن يسمع لفظ مشترك أريد به معنى فيفهم معنى آخر من معانيه، أو حقيقة أريد به معناه فيفهم مجازه، وقد يتعدد الفهم بحسب الاحتمال الواقع في التركيب و في الضمائر ونحو ذلك. ولا بد أن نورد من ذلك أمثلة يتضح بها ما قررنا ليكون مأخذًا في هذا الباب، ومصباحًا يستضيء به ذوو الألباب. فمن ذلك ما وردت عليه فهوم الناس قبلنا كما مرّ من الأبيات، فنشير إلى مأخذ الفهم منه، ومن ذلك ما يسنح للخاطر الآن، فأما أبيات أبي نواس فهي كلها واضحة في إشاراتها، وكذلك أبيات الفتى، فإن ليلى عبارة عن المحبوب "عند" السامع إما خالقًا وإما مخلوقًا واحدًا أو جماعة كأهل الله وطائفة المحبين والمنتسبين، أو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو سنته، أو نحو ذلك مما يخطر في البال، وأما أبيات مكين الدين فالراح فيها عند السامع هنا هي الخمرة الربانية القلبية، وهي لطف من الله تعالى ونور يرد على القلب فاستعاروا له اسم الخمر للشبه الواقع في اللذة والانفعال، وهو الصهباء "أيضًا" وبعد البيتين: يا من يلوم على صهباء صافية *** خذ الجنان ودعني أسكن النارا أي خذ جنان الشهوة وراحة النفس ودعني أسكن نار الشوق، فافهم، والأوزار يفهم منها أعباء المحبة والشوق وما يتحمله أصحاب ذلك. وقد وقع لي ذكر لهذا المعنى في أبيات من قصيدة طويلة وهي: فلولا هوى نجد وطيب نسيمها *** وريح خزاماها إذا ساوق الفجرا وعذب فرات سلسبيل سخت به *** أكف العوادي في حدائقها غمْرا مشمولة صهباء ما قطّ شابَها *** بِراوُوقه الحاني ولا حلت القِدْرا بها هامت الأرواح من قبل خلقنا *** ومن بعد ما كنّا وإذا نبلغ الحشرا فكم ولهتْ فكر ابن عيسى ومالك *** وكم أطربت سهلًا وكم شغلت بشرا إذا ما تحساها الفتى لم يخف بها *** جُناحًا ولكن يرتجي عندها برا تحمِّلُه الأوزارَ غيرّ مذمّم *** بأعبائها العظمى ولم يحمِلِ الوِزْرا وتبرد غلاّت الحشا وتشبُّها *** أُوارًا وتعطي الرشد والسفه الحجرا وتورثه قبضا وبسطا وفرقة *** وجمعًا ونسيانا وتورثُه ذكرا فلولا رجاء الفوز منا بشربة *** تداوي عقابيل الهوى والجَوى المُغْرى لكانت أكف البين تصدع بالجوى *** زجاجة أحشائي فلا أملك الجبرا فكل ما في هذه الأبيات من ذكر الصهباء وكذا نجد وريح الخزامي والعذب والفرات كل ذلك استعارات، وجرى الشعر على أسلوب العرب في الحنين إلى نجد ومنابته، وهو ما ارتفع من بلادهم، وكل أحد نجده ما توجه إليه، وإن لا يرتفع حسًا فهو مرتفع معنى فافهم. وأما أبيات ابن المعذل فالبيت فيها عند السامع هو القلب، والساكن فيه هو الحق تعالى شهودًا وحضورًا.
وفي الحديث القدسي: «لَمْ يَسَعْني أرْضي وَلا سَمَائي، وَوَسِعَني قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ». والوجه وجهه، والضمائر تعود اليه، وهاهنا مزلقة تقشعر منها الرؤوس، وتشمئز النفوس. حكى الإمام الرازي -رحمه الله- في كتاب "الإشارات في التعبير"، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو الصوفي بمكة- حرسها الله- قال: أخبرني أبو بكر الطوسي، قال: قال عثمان الأحول تلميذ الخراز -رضي الله عنه-: بات عندي أبو سعيد، فلما مضى بعض الليل صاح بي: يا عثمان، قم أسرج، فقمت وأسرجت، فقال لي: ويحك رأيت الساعة كأني في الآخرة والقيامة قد قامت، فنوديت فوقفت بين يدي الله تعالى وأنا أرتعد، لم يبق علي شعرة إلاّ وقد قامت، فقل "جل وعلا": أنت الذي تشير إليّ في السماع وإلى سلمى وبثينة، لولا أني أعلم أنك صادق في ذلك لعذبتك عذابًا لم أعذب به أحد من العالمين، انتهى. فنعوذ بالله من جسارة، تؤدي إلى خسارة. وقد وقع في هذا الخطر ابن الفارض، وابن سبعين والششتري وأضرابهم، وهو باب ضنْك، وللعبد في مطرح النعال، سعة عن جناب الكبير المتعال. وقد يكون السامع في فهمه أخف حالًا من المعبر، فإن الفهم أقرب إلى الغلبة، والتعبير أقرب إلى الاختبار، ومثال ما سنح في فكري مما حضر لي الآن قول امرئ القيس: "الله أنجح ما طلبت به *** والبِرّ خير حقيبة الرجل شرحه وقوله": أنا موضعين لحتم غيب *** ونسحر بالطعام والشراب فإن هذه القطعة موعظة عظيمة في ذكر الآخرة والزهد في الدنيا وإن لم يقصد نفس ذلك المعنى، ويزيد العاقل فيقول: هذا رجل دهري "كان" لا يؤمن بيوم الحساب، قد مقت الدنيا لمجرد ما رأى من الانتقال عنها إلى الفناء، فكيف لا يمقتها من يؤمن بالجنة وأن الدنيا لا تساوي شيئًا إذا قيست إليها ولا تزن عند الله جناح بعوضه، وان الاشتغال بها "يعوق" عن الملك العظيم، والنعيم المقيم، ويعرض للحساب الشديد والعذاب الأليم، وقوله: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي فإن العابد يفهم منه أنه لو كان يسعى لمعيشة الدنيا الحسيسة الفانية لكفاهُ أدنى شيء، ولكنه يسعى للملك العظيم، في دار النعيم، وهو المجد حقًا، فليس إلاّ الجدّ والاجتهاد، ومسامرة النوافل والأوراد، والعارف يفهم منه أنه لو كان يسعى لمجرد التنعم في الجنة لكفاه إقامة الرسم الشرعي، والوقوف عند الحد المرعي، ولكنه يسعى للوصول والنظرة، والحضور والحضرة، فليس إلاَّ زيادة الاعتناء بصفاء الأسرار، والفناء عن الأغيار، وقوله: تنورتها من أذرِعاتٍ وأهلُها *** بيثربَ أدنى دارِها نظر عال فإن المريد قد يفهم منه "أن" الضمير للحقيقة، وأهلها بيثرب وهم محمد وأصحابه صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة أجمعين. وكون نيل ذلك من أذرعات وهو موضع بالشام "مناسب، لأن الشام" مكان مرتفع باعتبار الغور، وليس يبلغ السالك ذلك إلاّ بعد بلوغ المنزلة الرفيعة "من الاستقامة والطهارة ومن الهمة" الرفيعة فإن العبد يفتح له على قدر همته وبنظره العالي يقرب الفتح بإذن الله تعالى، بل النظر العالي وهو ما يكون إلى الحق دون شيء دونه هو كلية الأمر وعماده، رزقنا الله منه قسطًا وافرًا بمنه آمين. وقول عنترة: وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها إني امرؤ سمح الخليقة ماجد *** لا أتبع النفس اللّجوج هواها فإن هذا في باب العفة والتحلي بمكارم الأخلاق في الجملة صريح، وباعتبار الرياضة والمطلوب من التحلية والتخلية عند السالكين إشارة، وهي كافية في المقصود، لأن مخالفة الهوى هو ملاك الأمر كله، ومثل هذا لا ينحصر في شعر العرب "فقلما يخلو بيت أو أبيات من معنى أو معان فإن الحكمة قد أنزلت على ألسنة العرب". وقد قال الله تعالى في الشعراء: {أنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ومثل ذلك في كلام المولدين، وقد تقدم من شعر أبي نواس، وفال أبو الطيب: لك يا منازل في القلوب منازل *** أقفرت أنت وهنّ منكِ أواهلُ فإنه يفهم منه سوى مقصود الشاعر أمور: *** منها أن المنازل من مظاهر الكائنات كلها، والقلوب قلوب أرباب الاعتبار والاستبصار يقول إن لهذه الحوادث في قلوبهم منزلة من الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار يتعرفون بها وجود الله تعالى وما له من الصفات "الجلية" والأسماء العلية فهي مقفرة دائرة فانية، والقلوب عامرة منها بالتوحيد، أو منزلة من التقلب في مظاهر التصريف يتعرفون منها ما لله تعالى من الجلال والجمال والعظمة والكبرياء والقهر والبطش والفضل والرحمة والحلم، وبالجملة فالكائنات مرتع لأرباب الاستدلال وأرباب الكمال و{قَدْ عَلِمَ كُل أنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}، أو القلوب قلوب أهل الغفلة وحب الدنيا، فيقول إن لهذه الحوادث منزلة في قلوبهم محبة لها وتعظيمًا، وقد أقفرت هي فلا تنفع ولا حاصل لها ولا بقاء، وقلوبهم عامرة بها مفتونة بالنظر "إليها" والكدح عليها ويكون الكلام تقبيحا للدنيا ونعيًا على محبيها. ومنها أن المنازل منازل السّائرين في السلوك أو المقامات الواصلين، والقلوب قلوب المتوجهين فيقول: إن لهذه المنازل أو المقامات في قلوبهم مكانًا من المحبة لها والاغتباط وحب الاقتداء بأهلها فيها، وقد أقفرت هي بذهاب أهلها، بانتقاص الزمان، فإن الإمام الجنيد كان يقول في زمانه الفاضل: إن هذا العلم قد طوي بساطه منذ زمان، وإنما يتكلم الناس في حواشيه، أو كلامًا بمعناه، فما بالك بزمان كل من يسمع هذا الشعر إلى يوم القيامة، أو القلوب عامرة بالمحبة والاشتياق من سماع أخبارها ومطالعها في الدفاتر، أو عامرة بالمعارف والأسرار من مطالعتها وسماعها، فإنه عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة في القلوب، أو من الاقتداء بما فيها والنسج على منوالها، وهو ظاهر، وقد يفهم من المنازل مواضعهم التي كانوا يتعبدون فيها من المساجد والرباطات "والخلوات" والبراري التي دفنوا فيها والتقرير على حسب ما قبله، وكنت أشرت إلى شيء من هذا الغرض في أبيات من قصيدة طويلة، وهي: يا قمريّ البان نح حزنًا على زمن *** مضى بقوم من الأبرار أمجاد وسل بنعمان عنهم بعد خيف مِنىً *** وبالمحصَّب يوم الهيد والهاد واهتف بلبنان بعد القدس مصطرخًا *** وباللّكام نداء الهائم الصادي ولا تدع غائرًا من كلّ أودية *** ولا تدع شامخًا من كلّ أطواد فتلك أوطان أحبابي وإن نزحوا *** عن مقلي فهم بالقلب شُهّادي فإن ظفرت بمن يهديك نحوهم *** فقد ظفرت بكنز غير نفاذ وإن شممْت شذا أخبارهم عَبِقا *** أبهى من النور في بطحاء مقلاد فتلك غُنْيَةُ نفس عاقها قدر *** أن تدرك المُنية العظمى بتشهاد وقد اتفقت لبيت أبي الطيب المذكور حكاية لطيفة تذكر في "باب" الأذكياء، وهي أن أبا العلاء المعري كان يعتني بشعر المتنبي، ويستجيده، حتى حكي عنه أنه قال: أنا الذي يعني أبو الطيب بقوله: أنا الذي ينظر الأعمى إلى أدبي ثم إنه حضر يومًا مجلس الأمير فتكلم الأمير حتى وقع في أبي الطيب وغض منه بعض الغض، فأراد المعري أن ينافح عن أبي الطيب فقال: أيها الأمير يكفيك من أبي الطيب قوله: لك يا منازل في القلوب منازل *** أقفرت أنت وهن منك أواهل ففطن الأمير وقال لأصحابه: أتدرون ما يقول الأعمى؟ إنه يشير إلى قوله في أثناء هذه القصيدة: وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كامل خذوا برجله، فجر أبو العلاء حتى خرج، فأنظر إلى لطافة هذه الأذهان، وكيف تلطف هذا بالإشارة، وكيف وقع عليها الآخر؟ ونحوها ما وقع للكسائي، وكان وعده الرشيد صلة ثم غفل عنه، فاتفق أن سايره يومًا إلى أن مروا بموضع فقال: يا أمير هذا منزل عاتكة الذي يقول فيه الشاعر: يا بيت عاتكة التي أتعزل *** حذر العدا وبه الفؤاد موكل فتعجب الرشيد من مفاتحة الكسائي له بالكلام، ولم يكن ذلك أدبًا مع الملوك، ثم نظر فإذا هو يشير إلى قول الشاعر في أثناء القصيدة: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم *** مذق الحديث يقول ما لا يفعل ففهم ذلك وأمر له بالصلة. لله الأمر من قبل ومن بعد.
خطر لي الآن كلام فأردت أن أنبه عليه "و" على طرف منه فإن شرحه يطيل وذلك أنا بعد وفاة الأستاذ المحقق السني أبي عبد الله بن ناصر رضي الله عنه لم نزل نسعى في نفع الناس بتعليم ما يحتاجون من دينهم وما يحتاجون من أوراد النوافل والأذكار التي يتزودون بها لمعادهم ويتحببون بها ويتقربون إلى ربهم عاملين في ذلك على وجه المؤاخاة والمعاونة على البر والنصيحة، على وجه المشيخة، وعلى وجه التعليم والإرشاد لا على وجه التربية، ثم أنه جرى من ذلك ما عادته أن يجري من كلام منكر أو متنصح، فأخبرني بعض أصحابي أنه جرى كلام بينه وبين "بعض" القضاة المتصدرين للدرس فتكلم له القاضي في شأني وقال له على وجه النصيحة فيما زعم: ما ألجأ فلانًا إلى تلقين الأوراد؟ فهل رأيتم مريدًا بشروط الإرادة قط؟ فلما حدثني بذلك قلت له: هلا قلت له: أما أنا لم نرَ مريدًا كذلك "فهو كذلك" وكيف نراه إلاّ أن يتداركنا الله برحمته؟ وقد كان الشيخ أبو العباس زروق يحكي عن شيخه أبي العباس أحمد ابن عقبة الخضرمي رضي الله عنهما أنه كان يقول "لهم": لو فتشتم من أقصى مشارق الأرض إلى أقصى مغاربها على مريد صادق في أحواله لم تجدوه فكيف بالعارف الكامل؟ ومع ذلك فانتقاص الزمان وانتقاص أهله لا يوجب انقطاع الدين ولا ارتفاع النصيحة، فإن هذا النقص سارٍ في الدين وفي العقول وفي الأقوات وفي الإمامة الكبرى والصغرى وفي النصيحة وغير ذلك، وهو قضاء جار أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قبل كونه في الأحاديث الكثيرة، وإليه يشير القائل: هذا الزمان الذي كنا نحاذره *** في قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غير *** لم يبك ميت ولم يفرح بمولود هذا ويا ليته دام، فإنه لا يزيد الأمر إلاّ شدة والخير إلاّ إدبارًا حتى ينقرض انقراضًا غير أن المعتبر في كل زمان ما هو فيه، وحكم الله تعالى جار في كل بحسب حاله، والدين مستمر، والحق ظاهر حتى يأتي أمر الله. ثم يلزمك أيها الناصح في هذا مثل ما يلزمنا، وما كان جوابك هو جوابنا، فإنك تصدرت للتعليم فهل رأيت بعينيك متعلمًا على شروط التعليم المعتبرة؟ أو هل رأيت في نفسك شروط المعلم؟ "فلا بد أن تعرض على نفسك شروط المعلم" وعلى من يجلس إليك شروط المتعلم، فإن تجد ذلك صحيحًا ظاهرًا أو باطنًا فتصدر، وإن وجدته مختلًا فكيف يحل لك أن تتصدر، وارتفاع الشرط يوجب ارتفاع المشروط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُؤْتُوا الحِكْمَةَ غَيْرَ أهْلِهَا فَتَظْلمُوها» فإن أجاب بأنه ارتكب أخف الضررين أو أن العلم أمنع جانبًا من أن يصل إلى غير أهله أو نحو ذلك فهو جوابنا بعينه، والله الموفق المسئول أن يتجاوز عنّا بعفوه ويتغمدنا برحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه. لله الأمر من قبل ومن بعد.
رأيت أن ألم بملح من الأدب تثمينًا للكتاب، وامتناعًا لذوي الألباب، فإن النفس ملول والأذن مجاجة، وفي التلون والانتقال تطييب لها وتنشيط كما قيل: لا يصلح النفس إن كانت مدبرة *** إلاّ التنقل من حال إلى حال وذلك كله مما يصلح للمحاضرات ويوافق شرط الكتاب، ويعد من الآداب. وقد قال الحسن بن سهل: الآداب عشرة: ثلاثة شهرجانية وهي ضرب العود، ولعب الشطرنج، والصوالج، وثلاثة أنوشروانية، وهي: الطب، والهندسة، والفروسية، وثلاثة عربية، وهي: الشعر والنسب وأيام الناس، والعاشرة مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالس، وهذا عام. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي من الباطل ليكون أقوى لها على الحق، وقال الشاعر: عجباً ممن تناهت حاله *** وكفاه الله ذلات الطلب كيف لا يقسم شطري عمره *** بين حالين نعيم وأدب مرة جدًا وأخرى لعبا *** فإذا ما غسق الليل انتصب فقضى الدنيا نهارًا حقه *** وقضى لله ليلًا ما يجب
وفي هذا إشارة إلى ما روي في حكمة آل داود عليه السلام: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع: عدة لمعاد، وإصلاح لمعاش، وفكر يقف به على ما يصلحه مما يفسده، ولذة في غير محرّم يستعين بها على الحالات الثلاث. وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلاّ حقًا، وكان أصحابه يتناشدون ويفيضون في الأنساب وأيام الناس ولا ينكر عليهم، وذلك كله مشهور. وقيل لسعيد بن المسيب: إن قومًا من "أهل" العراق لا يرون إنشاد الشعر فقال: نسكوا نسكًا أعجميًا. وقيل لابن سيرين: إن قومًا يرون إنشاد الشعر ينقض الوضوء فأنشد: لقد أصبحت عرْسُ الفرزدق ناشزًا *** ولو رضيت رمح أسته لاستقرت ثم قام يصلي، وقيل بل أنشد: نبئت أن فتاة كنت أخطبها *** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدًا لا يشتهي النسيب فقال: أما من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. وكان فضلاء هذه الأمة يروون الشعر ويقولونه أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان مصروفًا عنه قول الشعر سدًا للذريعة، وتنزيهًا عن النقيصة، ونفيًا للتهمة، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغي لَهُ} وأما غيره صلى الله عليه وسلم فلا محذور عليه في إنشاد الشعر رواية وقولًا، فإن الشعر من جملة الكلام، نعم إذا كثر ذلك حتى ألهاه عن ذكر الله فهو مذموم، ولا خصوصية في هذا الشعر. فمما يروى لأبي بكر رضي الله عنه قوله: تعدون قتلى في الحرام عظيمة *** وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد *** وكفر به والله راءٍ وشاهد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا *** بنخلة لما أوقد الحربَ واقد ومما يروي لعمر رضي الله عنه قوله: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته *** إلاّ الإله ويودي المال والولد لم تُغْنِ عن هرمز يومًا خزانته *** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** والجن والإنس فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت نوافلها *** من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنلك مورد بلا كذب *** لا بد من ورده يومًا كما وردوا ومما يروى لعثمان رضي الله عنه قوله: تفنى اللذاذة ممّن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار ومما ينسب إلى علي كرم الله وجهه: محمد النبي أخي وصهري *** وحمزة سيد الشهداء عمّي وجعفر الذي يمسي ويضحي *** يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكَني وعرسي *** منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها *** فمن هذا له سهم كسهمي سبقتكم إلى الإسلام طرًا *** غلامًا ما بلغت حلْمي وصليت الصلاة وكنت رِدْءًا *** فمن ذا يدعي يومًا كيومي وأوجب لي الولاء معًا عليكم *** رسول الله يوم غدير خم وغدير خم بضم الخاء موضع بين الحرمين. ومن شعره أيضًا وقيل: لم يثبت عنه غيره: تلكم قريش تمناني لتقتلني *** فلا وربث ما برّوا ولا ظفروا فإن هلكت فرهن ذمتي لهم *** بذاتِ وَدْقَينِ لا يعفو لها أثر وذات ودقين الداهية. ومما يروى لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله: إن كنت تعلم أن الله يا عمر *** يرى ويسمع ما تأتي وما تذر وأنت غفلة عن ذاك تركب ما *** عنه نهاك فأين الخوف والحذر فانظر لنفسك يا مسكين في مهل *** ما دام ينفعك التفكير والنظر قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها *** لله درك ماذا تستر الحُفَر ففيهم لك يا مغرور موعظة *** وفيهم لك يا مغرور معتبر فهؤلاء الأئمة المقتدى بأقوالهم وأفعالهم "وأحوالهم". وقد وقع ذلك لأكابر العلماء من أهل الدين كثيرًا شهيرًا، ومنهم من كان غزير المادة في الشعر مديد الباع فيه كعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود أحد الفقهاء السبعة بالمدينة حتى كان ابن المسيب إذا لقيه يقول له: مرحبًا بالفقيه الشاعر فيقول عبيد الله: لا بد للمصدور أن ينفث، فمن قوله: كتمتَ الهوى حتى أضر بك الكتم *** ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمّ عليك الكاشحون وقبلهم *** عليك الهوى قد نم لو ينفع النم وزادك إغراء بها طول بخلها *** عليك وأبلى لحم أعظمك الهم وأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة *** على أثر هند أو كمن سقي السم وكأنه أراد: من سقيه السم فحذف الضمير. ووردت امرأة جميلة مع ابن "لها" صغير "المدينة" فخطبت وكان ممن خطبها عبيد الله فقال فيها معرضًا ببراعة الفقهاء السبعة: أحبك حبًا لا يحبك مثله *** قريب ولا في العالمين بعيد أحبك حبًا لو علمت ببعضه *** لجُدْتِ ولم يصعب عليك شديد أحبك يا أم الوليد متيمي *** شهيدي أبو بكر وذاك شهيد ويعلم وجدي قاسم بن محمد *** وعروة ما ألقى بكم وسعيد ويعلم ما أخفي سليمان كله *** وخارجه يبدي بنا ويعيد متى تسألي عما أقول تخبري *** فللحب عندي طارف وتليد ويحكى أنه لقيه بعد هذا سعيد بن المسيب يومًا فقال له: أما إنك قد أمنت أن تسألنا، ولو سألتنا ما شهدْنا لك بزور، وهذا من فكاهة أهل الحجاز ولطافتهم رضي الله عنهم. وكان الإمام الشافعي-رضي الله عنه- وهو القائل مخبرًا عن غزارة عنصره في ذلك: ولولا الشعر بالفقهاء يزري *** لكنت اليوم أشعرَ من لبيد فمن قوله: ماذا يخبر ضيف بيتك أهله؟ *** إن سيل: كيف مَراده ومعاجه؟ أيقول جاورت الفرات ولم أنل *** رِفدًا إليه وقد طغت أمواجه ورقيت في درج العلى فتضاءلت *** عما أريد شعاره وفجاجه ولتخبرنَّ خصاصتي بتملقي *** والماء يخبر عن قذاه عندي يواقيت القريض ودُرُّه *** وعليّ إكليل الكلام وتاجه تُرْبي على روض الرّبى أزهاره *** ويرِق في نادي الندى ديباجه والشاعر المِنطيق أسود سالخ *** والشعر منه لعابه ومُجاجه وعداوة الشعراء داء مُعضِل *** ولقد يهون على الكريم علاجه والظاهر أنه قال هذا قبل اشتغاله بالفقه، فأنه لم يشتغل به حتى الآن في البادية وتوسع في العربية والشعر. ويحكى عن أبي القاسم بن الأزرق الشاعر أنه قال: جئت الشافعي يوما فقلت: يا أبا عبد الله لك الفقه تفوز بفوائده، ولنا الشعر، فأردت مداخلتنا فيه، فأما أفردتنا الشعر، وإما أشركتنا في الفقه، وقد أتيت بأبيات إن أتيت بمثلها تبت عن الشعر، وإن عجزت تبت عنه، فقال: هات، فأنشدته: ما همّتي إلاّ مقارعة العدا *** خَلِقَ الزمان وهمتي لم تخلَق والناس أعينهم إلى سلب الفتى *** لا يسألون عن الحِجا والأوْلَقِ لكن من رُزِق الحجا حُرِم الغنى *** هذان مفترقان أي تفرق لو كان بالحِيَل الغنى لوجدتني *** بنجوم أقطار السماء تعلقي فقال الشافعي: أنا أقول خيرًا منه وأنشد مرتجلًا: إن الذي رُزِقَ اليسارَ ولم ينلْ *** حمدًا ولا أجرًا لغيرُ موفَّق فالجَدَ يدني كل شيء شاسع *** والجَدّ يفتح كل باب مغلق فإذا سمعت بأن مجدودًا حوى *** عودًا فأثمر في يديه فحقق وإذا سمعت بأن محروما أتى *** ماء ليشربه فغاص فصدّق وأحقّ خلق اللهِ بالهمِّ امرؤ *** ذو همة يبلى برزق ضيق ومن الدليل على القضاء وكونه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وقال أبو سعيد المكي: سمعت الشافعي رضي الله عنه ينشد: رأيت نفسي تتوق إلى مصر *** ومن دونها عرض المهامه والفقر ووالله ما أدري أللفقر والغنى *** أقاد إليها أم أقاد إلى قبري وكان ينشد رضي الله عنه: يا لهف نفسي على مال أفرقه *** على الفريقين من أهل المروآت إن اعتذاري إلى من جاء يسألني *** ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات وقال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي يتمثل: إذا أصبحت عندك قوت يوم *** فخلِّ الهم عني يا سعيد ولم تخطر هموم غد ببالي *** لأن غدًا له رزق جديد أسلم إن أراد الله أمرًا *** وأترك ما أريد لما يريد توفي رضي الله عنه بمصر آخر يوم من رجب سنة سبع ومائتين، قال الربيع: لما دفناه رأينا هلال شعبان، وعاش أربعًا وخمسين سنة.
وكان القاضي عبد الوهاب بن نصر الفقيه المالكي رضي الله عنه، وفيه يقول أبو العلاء المعري حين مر بهم متوجهًا إلى مصر: والمالكيُّ ابن نصرٍ زار في سفر *** بلادنا فحمدنا النأيَ والسّفرا إذا تكلّم أحيا مالكا جدَلًا *** ويُنشرُ الملك الضليل إن شعرا فمن قوله يتغزل ويوري بالمسائل الفقهية: ونائمة قبّلتها فتنبهت *** فقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد فقلت لها: إني لثمتك غاصبا *** وما حكموا في غاصب بسوى الرد خديها وكفي لي عن إثم ظلامتي *** وإن أنت لم ترضي فألف من العد فقالت: قصاص يشهد العقل أنه *** على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني وهي هسيان خصها *** وباتت يساري وهي واسطة العقد وقالت: ألم أخبر بأنك زاهد *** فقلت لها: ما زلت أزهد في الزهد وينسب إليه قوله: تملكت يا مهجتي مهجتي *** وأسهرت يا ناظري ناظري وما كان ذا أملي يا ملول *** ولا خطر الهجر في خاطري فجد بالوصال فدتك النفوس *** فلست على الهجر بالقادر أيا غائبًا حاضرًا في الفؤاد *** سلام على الغائب الحاضر "وله أيضًا رحمه الله: يلومونني أن بعت بالرخص منزلي *** ولم يعلموا جارًا هناك ينغص فقلت لهم: كفوا الملام فإنما *** بجيرانها تغلو الديار وترخص" ولفقهاء العدوة من ذلك ما يطلع بدرًا لائحًا، ويسطع زهرًا فائحًا، وتتهاداه الحور، وتتحلى منه النحور، وتتبع ذلك يطيل، ونلم من ذلك بالقليل، إذ لا بد لهذا الكتاب، أن يأخذ من كل لباب، فمن ذلك قول الفقيه القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله في معنى الزهد: إذا كنت أعلم علما يقينا *** بأن جميع حياتي كساعة فلمْ لا أكون ضنينا بها *** وأجعلها في صلاح وطاعة ومن ذلك قول محمد بن سماك صاحب الأحكام يصف الروض: الروض مخضر الربى متجمّل *** للناظرين بأجمل الألوان فكأنما بسطت هناك سوارها *** خود زهت بقلائد العقيان وكأنما فتحت هناك نوافج *** من مسكة عجنت بصرف البان والطير يسجع في الغصون كأنه *** نقر القيان جثت على العيدان والماء مطّرد يسيل عبابه *** كسلاسل من فضة وجمان بهجات حسن أكملت فكأنما *** حسن اليقين وبهجة الإيمان وللفقيه أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي في الزهد: أمرت إلهي بالمكارم كلها *** ولم ترضها إلاّ وأنت لها أهل فقلت: اصفحوا عمن أساء إليكم *** وعوذوا بحلم منكم إن بدا جهل فهل لجهول خاف صعب ذنوبه *** لديك أمان منك أو جانب سهل وله يصف فرسًا: وأدهم من آل الوجيه ولاحقٍ *** له ليل لون والصباح حُجُول تحير ماء الحسن فوق أديمه *** فلولا التهاب الحضر ظل يسيل كأن هلال الفطر لاح بوجهه *** فأعيينا شوقا إليه تميل كأن الرياح العاصفات تُقِلّه *** إذا ابتل منه محزم وقليل وللحافظ أبي بكر بن عطية رحمه الله يحذر من خلط الزمان: كن بذئب صائد مستوحشا *** فإن أبصرت إنسانا ففر إنما الإنسان بحر ماله *** ساحل فأحذره إياك الغَرَر واجعل الناس كشخص واحد *** ثم كن من ذلك الشخص حذر وله يعاتب بعض إخوانه: وكنت أظن جبالَ رَضوى *** تزول وأن ودّك لا يزول ولكن الأمور لها اضطراب *** وأحوال ابن آدم تستحيل فإن يك بيننا وصل جميل *** وإلاّ فليكن هجر جميل ولابنه الحافظ عبد الحق رحمه الله يصف الزمان وأهله: داء الزمان وأهله *** داء يعز له العلاج أطلعت في ظلماته *** ودّا كما سطع السراج لصحابة أعيا ثِقَا *** في من قناتهم اعوجاج أخلاقهم ماء صفا *** مرأى ومطعمهُ أُجاج كالدر ما لم تختبر *** فإذا اختبرت فهم زجاج وللفقيه القاضي عياض بن موسى اليحصبي رضي الله عنه من شعره: إذا ما نشرت بساط انبساط *** فعنه فديتك فاطو المزاحا فإن المزاح كما قد حكى *** أُولُوا العلم قبلُ عن الحلم زاحا وله عند ارتحاله من قرطبة رحمه الله: أقول وقد جدّ ارتحالي وغردت *** حُداتي ورنت للفراق ركائبي وقد غمصت من كثرة الدمع مقلتي *** وصارت هواءً من فؤادي ترائبي ولم تبقَ إلاّ وقفة تستحثها *** وداعي للأحباب لا للحبائب رعى الله جيرانًا بقرطبة العلى *** وسقى رباها بالعِهادِ السواكب وحيا زمانًا بينهم قد ألفته *** طليق المحيّا مستلانَ الجوانب أحبابنا في الله فيها تذكروا *** معاهد جار أو مودّة صاحب غدوت بهم من برهم واحتفائهم *** كأني في أهلي وبين أقاربي وله برد الله ضريحه في الوداع: يا من ترحل عني غير مكترث *** لكنه للضنى والسّقم أوصى بي تركتني مستهام القلب ذا حُرَقٍ *** أخا جوى وتباريح وأوْصاب فلم أذق من لذيذ العيش بعدكم *** إلاّ جَنى حنظل في الطعم أو صاب أراقب النجم في جنح الدجى سَهَرًا *** كأنني راقب للنجم أو صابي وللأديب أبي الوليد محمد بن عبد الله بن زيدون رحمة الله عليه: ودع الصبر محب ودَّعك *** حافظ من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن *** زاد في تلك الخُطا إذ شيعك يا أخا البدر سناءً وسَنا *** حفظ الله زمانًا أطلعك إنْ يَطلْ بعدك ليلي فلكَمْ *** بتّ أشكو قِصَر الليل معك يا قمرًا أطلعه المغرب *** قد ضاق بي حبك المذهب ألزمتني الذنب الذي جئته *** صدقت فاصفح أيها المذنب وإنما أغرب ما مرّ بي *** أن عذابي بك مستغرب" وتتبع ذلك يطيل ويخرج عن الغرض. لله الأمر من قبل ومن بعد.
وهذه نبذة مختارة من شعر العرب، فمن ذلك في الأمثال، وقد تقدمت جملة منها في الكتاب: ففي الحض على الاتفاق والتوكل على الله تعالى قول جميل: كلوا اليوم من رزق الإله ابشروا *** فإن على الرحمن رزقكم غدا وفي تكذيب الكهانة وزجر الطير قول لبيد: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى *** ولا زاجرت الطير ما الله صانع وفي اليأس من إصلاح الأولاد مع فساد الآباء قول الفرزدق: ترجّي ربيع أن تجيء صغارها *** بخير، وقد أعيا ربيعًا كبارها وفي تلهف المعدم على قصوره عن فعل الخير قول خالد بن علقمة: وقد يقصر القل الفتى دون همه *** وقد كان لولا القل طلاع أنجد وفي الجنوح إلى الجبن قول النهشل بن حَرِّي: فلو أن لي نفسين كنت مقاتلًا *** بإحداهما حتى نموت وأسلما ونحو هذا قول حبيب بن عوف حين قال له المهلب "بن أبي صفرة" أكرر على القوم: يقول لي الأمير بغير علم *** تقدم حين جدَّ بهِ المراس فما لي أن أطلعتك من حياةِ *** وما لي غير هذا الرأس رأس "وقول أبي دلامة وقد ليم على الفرار: ألا لا تلمني في الفرار فإنني *** أخاف على فخّارتي أن تحطما فلو أنني أبتاع في السوق مثلها *** وحقّك ما باليت أن أتقدما وقال المبرد: حدثني عجل بن أبي دُلَف أن ابن أبي فتن مدح أباه بقوله موريًا: ما لي وما لك قد كلفتني شططا *** حمل السلام وقول الدار عين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلًا *** أمسي وأصبح مشتاقًا إلى التلف؟ تمشي المنون إلى غيري فأكرهها *** فكيف أسعى إليها بارز الكتف؟ أم قد حسبت سواد الليل شجعني *** أو أن قلبي في جنبيّ أبي دُلّف؟ فبلغ الشعر أبا دُلف فبعث إليه بأربعة آلاف دينار، فأخذها وأغلق عليه الدار، ولا عليه فيمن قعد أو طار، فقال المبرد: هذا كالذي دخل على قوم يشربون فسقاه بعضهم من غير الشراب الذي يشربون استحقارًا له فقال: نبيذان في مجلس واحد *** لإيثار مثر على مقتر فلو كنت تفعل فعل الكرام *** فعلت كفعل أبي البَحتري تتبع إخوانه في البلاد *** فأغنى المقل عن المكثر فاتصل قوله بأبي البختري فوصله بألف دينار ولم يره". وفي الحض على اقتناء العمل الصالح قول الأخطل: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد *** ذخرًا يكون كصالح الأعمال وفي اليأس من تلافي ما فسد قول رجل من عمان: والثوب إن أنهج فيه البلى *** أعيا على ذي الحيلة الراقع
وفي مجاملة العدو وإعداده لأعدى منه قول مرداس الأسدي: وذوي ضباب مظهرين عداوة *** وغر بصدور معاودي الإفناد ناسيتهم بغضاءهم ووفرتهم *** وهم إذا حسب الصديق أعاد كيما أعدهم لأبعد منهم *** ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد وفي حفظ المال وتثميره قول الملتمس: قليل المال تصلحه فيبقى *** ولا يبقى الكثير مع الفساد وحفظ المال أيسر من بغاه *** وسير في البلاد بغير زاد وفي تبليغ العدو قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا *** من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذرًا أو يصيب رغيبة *** ومبلغ نفس عذرها مثل منجح وفي معنى قولهم: القريب من تقرب -أي بورده- "لا" من تنسب قول الأعشى: لا تطلبن الود من متباعد *** ولا تنأ من ذي بغضة إن تقربا فإن القريب من يقرب نفسه *** لعمر أبيك الخير لا من تنسيا وفي الحض على الصبر في المواطن قول عمرو بن الإطنابة: أبت لي همتي وأبى بلائي *** وأخذ الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي *** وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات *** وأحمي بعد عن عرض صحيح وقد حكي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: دعوت بفرسي يوم صفين لأتصرف لاشتداد الأمر فما نفعني إلاّ أبيات عمرو المذكورة ذكرتها فصبرت. ونحوها "قول" قطري بن الفجاءة: أقول لها وقد طارت شَعاعا *** من الأبطال: ويحك لن تراعي فصبرًا في مجال الموت صبرًا *** فما نيل الخلود بمستطاع سبيل الموت غاية كالترجّي *** وداعيه لأهل الأرض داع وما للمرء خير في حياة *** إذا ما عد من سقط المتاع وفيمن يسعى لما فيه هلاكه ولا يعلم قول الآخر: وكم من طالب يسعى لأمر *** وفيه هلاكه لو كان يدري ومثله قول الآخر: وكم طالب أمرًا وفيه حمامه *** وسائرة تسعى إلى ما يضيرها ومثله قول الآخر: كم شارب عسلًا فيه منيّتُه *** وكم تقلد سيفًا من به ذُبحا ومثله قول أبي العتاهية: وقد يهلك الإنسان من باب أمنه *** وينجو بإذن الله من حيث يحذر ومن المعنى قول عدي بن أبي الصلت: تجري الأمور على حكم القضاء، وفي *** طي الحوادث محبوب ومكروه فربما سرّني ما بت أحذره *** وربما ساءني ما بت أرجوه" وفي التشكّي من فناء الأهل والأحبة قول ابن هرّمة: ما أظن الزمان يا أم عمرو *** تاركًا إن هلكت من يبكيني ويقال: إنه حين مات لم ير أحد خلف جنازته، وإنما رفعها عبيد له. وفي احتقار "السفيه" واللئيم وما يصدر منه قول الآخر: وما كل كلب نابح يستفزني *** ولا كلما طن الذباب أراع ونحوه في التنبيه على كثرتهم وأنه لا ينبغي الاحتفال بهم قول الآخر: لو كل كلب عوى ألقت حجرًا *** لأصبح الصخر مثقالًا بدينار وقول الآخر: أو كلما طن الذباب زجرته *** إن الذباب إذن عليَّ كريم آخر: اذهب فأنت طليق عرضك إنه *** عرض عززت به وأنت ذليل آخر: نجا بك عرضك منجى الذباب *** حمته مقاذيره أنْ ينالا وفي فعل الحاسدين من نشر المساوي ودفن المحاسن "قول" الآخر: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا *** سرًا أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا ونحوه قول الآخر: صم إذا سمعوا خيرًا ذكرت به *** وإن ذكرت بسوء عندهم أذِنوا وفي بيع ما يضمن به عند الحاجة قول الآخر: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك *** كرائم من رب بهن ضنين "وقال أبو علي الحداد: قالت: وأبدت صفحة *** كالشمس من تحت القناع بعت الدفاتر، وهي آ *** خر ما يباع من المتاع لا تعجبي ممّا رأي *** ت فنحن في زمن الضياع ونحو ذلك قول ابن الحاجب لما ورد مصر: يا أهل مصر وجدت أيديكم *** عن بسطها للنوال منقبضه لما عدمت الغذا بأرضكم *** أكلت كتبي كأنني أرضه وصرت لما حللت واديكم *** كجملة في الكلام معترضه" وفي قساوة القلب قول مهلهل بن ربيعة: *** يبكي عليتا ولا نبكي على أحد *** لنحن أغلظ أكبادًا من وفي اتباع ما تيسر، وترك ما تعسر، قول الأعشى: إذا حاجة ولتك لا تستطيعها *** فخذ طرفًا من غيرها حين تسبق ونحوه قول عمرو بن معد يكرب: إذا لم تستطع شيئًا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع وقد سبق إليه امرؤ القيس في قوله: وخير ما رمت ما ينال وفي التحذير من فعل السوء مخافة قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي فنعاقبه، فسمى المجازاة على الجهل جهلًا كقوله تعالى: {الله يستهزئ بهم}. وفي التشكي من قلة الإخوان الصادقين قول امرؤ القيس: إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته *** وقرت به العينان بدلت آخرا كذلك جدّي ما أُصاحب صاحبا *** من الناس إلاّ خانني وتغيّرا وأخذ الشعراء هذا المعنى كثيرًا كقول الأندلسي: وزهدني في الناس معرفتي بهم *** وطول اختباري صاحبًا بعد صاحب فلم ترني الأيام خلًا تسرني *** مباديه إلاّ ساءني في العواقب ولا قلت: أرجوه لدفع ملمّة *** من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب وذكر عن ابن العباس النيسابوري أنه قال: لو صحت صلاة بغير قراءة القرآن لصحت بهذا البيت: أتمنى على الزمان محالًا *** أن ترى مقلتاي وجنة حر ويحكى أن علوية غنى بين يدي المأمون بن الرشيد -رحمهم الله-: وإني مشتاق إلى ظل صاحب *** يروق ويصفو إن كدرت عليه يوافقني في كلّ أمر أرومه *** ويغفر ذنبي إن أسأت إليه فقال المأمون: أعطوني هذا الصاحب وخذوا نصف الخلافة، والشعر لأبي العتاهية. ولابن حمديس من قصيدة: فلا ترج من دنياك خيرًا وإن يكن *** فما هو إلاّ مثل ظلّ سحاب وما الحزم كل الحزم إلاّ اجتنابها *** وأشقى الورى من تصطفي وتحابي ولغيره: وإخوان وثقت بهم فأضحى *** أذاهم يعتريني كل حين فلما أن أسأت الظنّ كفوا *** فيا عجباه من ظن يقيني طرفة: كل خليل كنت خاللته *** لا ترك الله له واضحه كلهم أروغ من ثعلب *** ما أشبه الليلة بالبارحة ! غيره: وكنت أخي بإخاء الزمان *** فلما انقضى صرت حرْبًا عوانا وكنت أُعدّك للنائبات *** فهم أن أطلب منك الأمانا غيره: فلا تغترّ من خلّ ببشر *** ولا يتودد عند التلاقي فكم نَبْت نضير راق حسنًا *** عيانًا وهو مُرٌّ في المذاق غيره: كان ما كان وانقضى ومضى *** وقد طويت بساطًا كنت ناشره لما رأيتك لا تبقي على أحد *** فكيف أحسد بعدي من تعاشره وقال سعيد بن حميد من أبيات: وما أنت إلاّ كالزمان تلونت *** نوائب من أحداثه وأمور فإن قل إنصاف الزمان وعدلُه *** فمن ذا على جور الزمان يُجير؟ وقال جحظة: ضاقت عليّ وجوه الرأي في نفر *** يلقون بالجحد والكفران إحساني قلّب الطرف تصعيدًا ومنْحَدَرًا *** فما أقابل إنساني بإنسان وقال: وإذا جفاني صاحب *** لم أستجر ما دمت قطْعَهْ وتركته مثل القب *** ر أزورها في كل جمعة" وفي التفجع على الشباب قول حميد بن ثور الهلالي: ليالي أبصار الغواني وسمعها *** إلي وإذْ ريحي لهنّ جنوب وإذا شعري ضافٍ ولوني مُذهَب *** وإذا ليَ في ألبابهنّ نصيب فلا يبعد الله الشباب وقولنا *** إذا ما صبونا صَبْوةً سنتوب وقال أبو الفضل المكيالي بل ابن الرومي: يمضي الشباب ويبقى من لبانته *** شجو على النفس لا ينفك يشجيها ما كان لي دون إعجاب النساء به *** والنفس أوجب إعجابًا لما فيها وقال قتادة في قوله تعالى: {وَجَاءكُمْ النَّذيِرُ} يعني الشيب. وقال المهلبي: صبغت الرأس ختلًا للغواني *** كما غطى على الرِّب المريب أعلل مرة وأساء أخرى *** ولا تحصى من الكبر العيوب أُسوف توبتي خمسين حولًا *** وظني أن مثلي لا يتوب يقَوَّمُ بالثِّقافِ العود لدْنا *** ولا يتقَّومُ العودُ الصليب وكان مالك بن دينار يقول: ما أشد فطام الكبير، وقال آخر: *** دعي لومي ومعتبي أماما *** فإني لم أعود أن ألاما وكيف ملامتي إذْ شاب رأسي *** على خلق نشأت به غلاما وقال محمود للوراق في الخضاض: يا خاضب الشيب الذي *** في كل ثالثة يعود وله بديهةُ لوعةٍ *** مكروها أبدًا عتيد فدع المشيب كما أرا *** د فلن يعود كما تريد وقال أيضًا في ذلك: يا خاضب الشيبة نح فقدها *** فإنما تدرجها في كفن أما تراها منذ عاينتها *** تزيد في الرأس بنقص البدن وحكى أن أبا الأسود الدؤلي دخل على عبيد الله بن زياد فقال له عبيد الله يهزأ به: يا أبا الأسود، إنك لجميل، فلو تعقلت تميمة؟؟ فقال أبو الأسود: أفنى الشباب الذي أفنيت جدته *** كَر الجديدين من آت ومنطلق لم يتركا لي في طول اختلافهما *** شيئا أخاف عليه لذْعة الحدق" ونحوه قول محمد بن حازم: لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها *** من الشباب بيوم واحد بدل وقول منصور النمري: ما كنت أوفى شبابي حق عزته *** حتى مضى فإذا الدنيا لهُ تبع "وقال ابن الخطيب: لما علاني الشيب قال صواحبي *** لا تبتغي خلًا بثوب أشهب فصبغته خوف الصدود فقلن لي: *** هذا رواية أصبغ عن أشهب وقال غيره: نظرت إليّ بطرف من لم يعدل *** لما تمكن طرفها من مقتلي لما رأت شيبًا ألمَّ بمفرقي *** صدت صدود بجانب متحمِّل فجعلت أطلب وصلها بتملق *** والشيب يغمزُها بأن لا تفعلي وقال غيره: أناخ الشيب ضيفًا لم أُرِدُه *** ولكن لا أطيق له مَرَدّا رداء للرّدى فيهِ الدليل *** تردى من به يومًا تردى وقال غيره: حلّ المشيب بعارضي ومفارقي *** بئس القرين أراهُ غير مفارقي رحل الشباب فقلت: قف لي ساعة *** حتى أودع قال: إنك لاحقي ويحكى أن أبا دلف دخل على المأمون وعنده جارية فغمزها عليه فقالت له: شِبْتُ يا أبا دُلف، فأعرض عنها، فقال له المأمون: ألا تجيبها؟ فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: تهزأت إذا رأت شيبي فقلت لها: *** لا تهزئي من يطلْ عمرٌ به يشب شيب الرجال لهم زين ومكرمة *** وشيبكنّ لكُنّ العارُ فاكتئبي فينا لكُنّ وإن شَيْبٌ بدا أرَبٌ *** وليس فيكن بعد الشيب من أرب غيره: لا تخطون إلى خِطءٍ ولا خطَأ *** من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطأ فأي عذر لمن شابت مفارقُه *** إذا جرى في ميادين الهوى وخطا وقيل: ظهور الشيب في الناصية كرم، وفي القفا لؤم، وفي الهامة وقار، وفي الفودين شرف، وفي الصدغين شح، وفي الشاربين فحش". وهذا الباب لا يأتي عليه الحصر، فلنقتصر على هذا القدر. واعلم أنه لا يزال علماء الأدب من لدن أدبرت العرب يختلفون في مقالة العرب بحسب اختيار الأجود منه والأصدق والأفخر أو نحو ذلك فنورد جملة مما وقع لهم في ذلك إمتاعًا والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد.
|